الأحد، 22 مايو 2022

 

لعبة (كودي كودي ) الشعبية للجالية البلوشية في وادي فاطمة ، نموذج حي للرواسب الثقافية أثناء الهجرات السكانية !!

تمثل بعض الألعاب الشعبية في مختلف الثقافات والشعوب عبر العصور والأزمنة السابقة  تدريباً على خوض الحروب من خلال المواجهات التي تتم داخل نطاق جغرافي أو قلبي ضيق ( داخل القبيلة نفسها )!!              وقد أوضحت بعض الدراسات الانثروبولوجية أن سلوك اللعب عند البشر تطور لصقل المهارات الضرورية للبقاء على قد الحياة ، أو حماية السكان والمكان، والتكيف الأمني والغذائي مع البيئة المحيطة ، فطقوس وسير وأنماط  الألعاب الشعبية والرقص عند مختلف الشعوب والحضارات تاريخ يوثق لحياة إنسان تلك الشعوب ، لذا فقد ارتبطت تلك الطقوس بحياة وأحداث الانسان من زواج ، و ولادة ، وحرب ، وسلام ، ومرض ، وشفاء وكذلك ارتبطت بالدين والطقوس التعبدية ، وتحولت هذه الطقوس عبر آلاف السنين إلى نوع من أنواع الترفيه والتسلية تقام في المناسبات والاعياد !

لقد تذكرت كل ذلك عند مشاهدتي  للأحد الألعاب الشعبية عند قبيلة البلوش الباكستانية في وادي فاطمة ، واستحضرت أيضاً كثيرا من الحوارات والنقاشات التي شاهدتها وسمعتها تدور مؤخرا حول أصول وجذور بعض الألعاب الغنائية الشعبية !!

وكذلك  تشابهه بعض الألعاب الشعبية عند بعض القبائل التي لا ترتبط بوحدة نسب أو وحدة جغرافية قريبة نوع ما ، تجعلها مسببا لذلك التشابه،مما ينبئ عن ترسب ثقافي لازال واضح للعيان بسبب الهجرات والتداخل القبلي الذي حدث في فترة زمنية قريبة نوعاً ما !!

كل ذلك جال في خاطري في أحد المساءات الباردة  في فصل الشتاء الفائت ، فقد  دعيت إلى حفل زواج للجالية الباكستانية  من قبائل البلوش الذين يعملون في الفلاحة والزراعة في أعالي وادي مر الظهران  تحديداً  في القوبعية ( وادي بني عمير ) ، وكنت حريص على توثيق أحد ألعابهم الشعبية التي ظلوا متمسكين بها ولا زالوا شبابهم يلعبونها بحماس وهي لعبه ( كودي كودي) أو ( قودي قودي )

وتتمثل هذه اللعبة في فريقين متقابلين يقوم مهاجم من أحد الفرق بلمس أحد الأفراد من الفريق الاخر ومن ثم العودة بسرعة قبل أن يتم الإمساك به أو عرقله وصوله لخط فريقة ، وطول فتره مهاجمته يردد ( كودي كودي او قودي قودي )

بينما يحرص الفريق المدافع على إعاقة وطرح الفرد المهاجم لهم أرضا وتثبيته، ونفس العمل يقوم به المهاجم لمن أراد توقيفة!!

بحث عن مسمى هذه اللعبة عند البلوش في كتاب الألعاب الشعبية البلوشية للباحث شاهين البلوشي ووجدتها يسميها  بلعبة المراوغة ( بازوري، كاتور)

بينما سموها لي هؤلاء البلوش الكرماء -الذين أصروا على استضافتي ومشاركتي لهم فعاليتهم وسمحوا لي بالتوثيق والتصوير -بمسمى اللفظة التي يرددونها أثناء ممارسة اللعبة (كودي كودي )-

وقد أعجبني شدة تمسكهم بعاداتهم وتقاليدهم التي لازال يؤديها شبابهم بكل فخر واعتزاز وهو بعيدين عن أوطانهم!!

كما أعجبتني هذه اللعبة اللي تعتمد على مبادئ ومعاني سامية غير قوة التحمل واللياقة البدنية والجسارة!!

فهي تعتمد أيضا على الخفة، والمراوغة، وتقدير الخصم، والعمل الجماعي، ومعرفة نقاط الضعف والقوة عند الخصم، والانضباط، والتوقيت الزمن المناسب للهجوم أو الأحجام عنه!!

ورغم شدة الحماس والاقتحامات العنيفة بعض الشيء التي مارسها هؤلاء البلوش على بطحاء وادي مر الظهران الناعمة ، فقد رأيتهم يقابلون ذلك فيما بينهم برحابة صدر، وابتسامه وضحك، أيضاً كانوا حرصين على التقيد بتوجيهات الحكم ، وتفاعل مع جمهورهم الذي يبادلهم أيضا نفس الشعور والتعليقات والصيحات التشجيعية وخاصة من كبار السن !!

أمام هذا كله عادة بي الذاكرة لكثير من كتابات الباحثين عن الأنثروبولوجيا والهجرات البشرية ومصطلح الرواسب الثقافية التي عرفها  (تايلور ) (( بأنها العمليات الذهنية والأفكار والعادات وأنماط السلوك والآراء والمعتقدات القديمة التي كانت سائدة في المجتمع في وقت من الأوقات بسبب ظروف وأسباب معينة، والتي ما يزال يحافظ عليها المجتمع ويتمسك بها بعد أن انتقل من حالته القديمة إلى حالة جديدة واختلفت فيها الظروف عما كانت عليه في الحالة الأولى )) { محمد جواد كاظم : مدخل لدراسة الرقص الشعبي على ضوء الأثنوجرافيا، مجلة التراث الشعبي }

أقول:

ان دراسة تاريخ وثقافة الشعوب والقبائل لا ينفك كثير عن موروثها الشعبي وتقاليدها وعادتها ((ورواسبها الثقافية)) التي تظل تمارسها وتتمسك بها أينما حلت وحطت ركائبها!!

 فكم حدثت من هجرات وتنقلات بشرية في مختلفة الأزمنة والعصور، وتركت هذه الهجرات على خط عبورها خيوط اتصال من خلال هذه الترسبات الثقافية، تربط ما بين المنبع وما بين المصب لهذه الهجرات والتنقلات البشرية!!

وما لعبة ( الكودي كودي ) التي يمارسها هؤلاء البلوش في (بطحاء ) وادي مر الظهران وهم يبعدون آلاف ومئات الأميال عن موطنهم الأصلي الا مجرد مثال بسيط لمثل هذه الهجرات ، ومثال واضح لتشابه كثير من الرواسب الثقافية بين الشعوب وربما القبائل في المناطق والأقاليم المتقاربة أو المتباعدة !!

فلو استوطنت هذه الفئة بشكل دائم في هذا الوادي فماذا سوف يقال عنهم وعن مورثهم وعاداتهم وتقاليدهم التي سوف تندمج تلقائيا مع الموروث والرواسب الثقافية المحيط بهم بعد استقرارهم بمائة سنة أو أقل !!

وماذا سوف يقال عن تشابه موروثهم مع مواطنهم الأصلية أيضاً بعد مرور مئات السنين من هجرتهم !؟

وماذا سوف يحدث وينتج عن اندماج هذه الثقافات وانصهار بعضها ببعض !؟

كل هذه التساؤلات تنتظر إجابات بحثية جادة غير تقليدية ، في ضوء أذا عرفنا أن وادي فاطمة يضرب بجذوره في أعماق التاريخ الإنساني في جزيرة العرب منذ عصور ما قبل التاريخ  ، حيث أثبتت التنقيبات التي قامت بها البعثات الأثرية وجود حضارة تمثل العصر الأشولي والموستيري في هذا الوادي العريق(مجلة أطلال-العدد المنشور في عام 1400ه-التقريرالمبدئي عن مسح المنطقة الغربية ) وقد ذكر الباحث بدر ستير اللحياني  أن وادي فاطمة هو منشأ رئيسي للهجرات في معظم أجزاء جزيرة العرب ،وربط ذلك بتشابه المكتشفات الاثرية في وادي فاطمة في العصور الحجرية ،مع موقع صفاقة في وسط الجزيرة العربية ، وكذلك ربطها بعوامل الجذب البشرية التي أهمها توفر المياه الدائمة في هذا الوادي !

فكم من هجرات وتنقلات بشرية عبر العصور استقرت واستوطنت عبر مئات وألاف السنين في وادي فاطمة وغيرها في مناطق الجزيرة العربية فتركت خلفها أو حملت معها العديد من حلقات ورموز اتصال مبهمة وغامضة التي تحتاج إلى ( بحث وتحقيق) و إلى  دراسات أنثروبولوجي جادة وشجاعة في هذا الحقل ودراسة كثير من مظاهر تشابه تلك  الترسبات الثقافية !؟

 

كتبها/

مهدي نفاع بن مسلم القرشي- مكة المكرمة

٢٢ شوال ١٤٤٣