الأربعاء، 3 يونيو 2020

(المُكاء طائر أم سالم )

قال تعالى (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً))[الأنفال:35]؟
جاء عند المفسرون أن المكاء هو الصفير، و التصدية: التصفيقو المكاء: طائر من نوع القنابر.

وقالو منه : مكا يمكو مَكوًا ومُكاءًوقد قيل: إن " المكو ": أن يجمع الرجل يديه، ثم يدخلهما في فيه، ثم يصيح.
وجاء في لسان العرب وغيره من معاجم اللغة: 
والمُكَّاء، بالضم والتشديد: طائر في ضرب القُنْبُرةِ إِلا أَن في جناحيه بَلَقاً، سمي بذلك لأَنه يجمع يديه ثم يَصْفِرُ فيهما صَفِيراً حسناً.

وهو طائر يأْلَف الرِّيف والبراري الفسيحة، وجمعه المَكاكِيُّ ، وسمي بذلك -كما ورد في مقاييس اللغة لابن فارس  لأنه يمكو أي يصفر، والمكاءفي اللغة هو الصفير وقال الشاعر:
إذا غرد المكاء في غير روضة
فويل لأهل الشاء والحمُراتِ
ويقصد الشاعر بذلك الجدب، لان المكاء يألف الرياض، فإذا أجدبت الأرض سقط في غير  روضة، وغرد، فالويل حينئذ لأهل الشاء والحمر.

ويقول أمرؤ القيس:

وأَلْقَى بِصَحْـرَاءِ الغَبيْطِ بَعَاعَـهُ

نُزُوْلَ اليَمَانِي ذِي العِيَابِ المُحَمَّلِ

كَأَنَّ مَكَـاكِيَّ الجِـوَاءِ غُدَّبَـةً

صُبِحْنَ سُلافاً مِنْ رَحيقٍ مُفَلْفَـلِ

 وطائر المُكاء كما جاء في المعاجم هي التي تعرف في عاميتنا بأم سَالِم في أنحاء كثيرة من المملكة العربية السعودية وتسمى في نواحينجران حتى الان بالمكاكي.
وهي التي ترتفع وتنخفض في طيرانها ، وأسمها العلمي كماذكرته بعض المصادر العلمية المتخصصة  (القبرة الهدهدية).

ويقول الشاعر الجاهلي الشنفرى وهو يصف طريقة طيران المُكاء وهو ماينطبق على طريقة أم سالم في الطيران:
ولا خرق هيق كأن فؤاده 
يظّل به المكاء يعلو ويسفل 
ويوافق وصف الشنفرى قول شاعرنا الشعبي المعاصر  مرير الحبيل العتيبي:

أشهد إن البر يااهل ألوفا ماله مثيل
يبهج الخاطر وينعشك نفحات إنسمه
‏.
وام سالم صوتها يبري القلب العليل
ترتفع والها نغمه ترتخي والها نغمه

 وذكر ذلك الوصف إيضاً على طائر أم سالم  -الذي يسمى عند بعض  نواحي نجد بأم صالح - حيث قال الشاعر شقير بن عقيل العتيبي:
ما فيها غير الطيور تصج وتلالي
               مع شقة النور والأصوات مسحوبة

 فيها أم صالح تجر الصوت موالي
                 تطلع وتنزل تقول بسلك مجذوبة


 وكان العرب يتفاءلون اذا رأوا طير أم سالم  ، فقد أسماها أبو زيد الهلالي  بطير الفلاح ، حيث قال عند رحيل بني هلال من نجد:

يا نجد لو ان الجفا منك مرة

صبرت لكن الجفا منك دايم

سرنا على هجن قد انقاد حيها

وعرض لنا طير الفلاح أم سالم

كما أن بعض البادية في جنوب المملكة العربية السعودية يتباشرون بالحيا ونزول المطر  عند سماع أصوات طائر ام سالم ( المكيكي ) فيقولشاعرهم :

ياعم أنا جاني بشيرٍ من الحيا
‏       صوت المكيكي واختلاف الهبايب

وبسبب صوتها و تصفيرها الجميل  الذي تطلقه أم سالم  خاصة في أوقات الربيع بالقرب من قطعان الماشية ينجذب الرعاه نحوها  بغيهالاستمتاع بصوتها أو الرغبة في صيدها لكن بالرغم من قربها منهم تظل حذرة وتطير من بقعه إلى أخرى فتليهيهم عن الرعي ويتيهون عنقطعانهم  وماشيتهم فأطلقوا عليها تجاوزا مسمى ( ملهية الرعان ) ولا يقتصر ألهاؤوها على الرعيان فقط ، فقد  يتحول الركبان وينزلون عنظهور جمالهم وخيولهم رغبة في مساهدتها ومطاردتها ، فجاء المثل الشعبي بالقول ( أم سالم محولت الراكب ومتيهت الراعي ).
وبسبب صوتها الجميل فإن أم سالم قد استباح دمها  في فترة من الفترات التي مرت على نجد بعض غلاة الدين والتنطع ، واستحبوا  قلتهالأنها تغني وخصوصا وقت صلاتهم !!
قال الشاعر :
يا أم سالم لاتجين منافقية
ترفعين الصوت من فوق المباني
ثم يجيك مطوع ببندقية
ييتم عيالك ويقول الله هداني

 وقد جاءعن أم سالم  في القصص والأساطير الشعبية إن النملة أتت في يوم من أيام الربيع تطلب من أم سالم المساعدة في تجميعالحبوب والبذور فرفضت أم سالم المعروفة بكثرة تغريدها في فصل الربيع بقولها: (يوم من طربي يسواك يا معزوقة الذنبي) ، ولما قل النبتوحل الجدب وأشتد الجوع على أفراخ أم سالم ذهبت متسولة تطلب شيئاً من الحبوب المخزونة لدى النملة التي أبت قائلة: (يوم التعببالحصايد ملهيك الطرب والقصايد).


 وهناك طيوراً أخرى من نوع فصيلتها  يتشابه معها في كثير من خصائصها مثل ملهي الرعيان ،( والقوقصة التي ترتفع وتنخفض -أيضاً - في طيرانها) وما نسميه في بئتنا المحلية في محافظة الكامل با(الرهيدي) فهو قريب منها في الشكل وفي صفة عدم الاكثراث بمن يقترب منه.

كتبمهدي نفاع بن مسلم القرشي

مكة المكرمة
 ١٠شوال ١٤٤١ه

الخميس، 16 أبريل 2020


الرّغام والمراغة:
الرغام أو الرغامة هي التراب اللين الدقيق ، وجاء في لسان العرب الرَّغْم والرُّغْمُ الكَرْهُ والمغرمة ، قال ياقوت الحموي: ( الرغام بفتح أوله وهو دقاق التراب، ومنه أرغمته أي أهنته وألزقته بالتراب، وقال الأصمعي: الرغام من الرمل الذي لا يسيل في اليد، وقال الفرزدق في جرير:
تَبْكِي المَراغَةُ بالرَّغامِ على ابنها
                        والناهِقات يَهِجْنَ بالإعْوالِ

ويقول عبدالله بن خميس :( الرغام دقاق الرمل  ،ومنه أرغمته إذا ألصقت خده بالرغام التراب الدقيق )..
  وجاء في الحديث: ((إذا صلى أحدكم فليلزم جبهته وأنفه الأرض حتى يخرج منه الرغم ))معناه حتى يخضع ويذل ويخرج منه كبر الشيطان .
وتقول :فعلت ذلك على الرغم من أنفه ،ورغم فلان بالفتح إذا لم يقدر على الانتصاف ..
وجاء في لسان العرب ((الرَّغْم والرِّغْم والرُّغْمُ الكَرْهُ والمَرْغَمَةُ مثله قال النبي صلى الله عليه وسلم بُعِثْتُ مَرْغَمَةً المَرْغَمَة الرُّغْمُ أي بُعِثْتُ هواناً وذُلاًّ للمشركين وقد رَغِمَهُ ورَغَمَهُ يَرْغَمُ ورَغِمَتِ السائمة المَرْعَى تَرْغَمُه وأنِفَتْه تأنَفُهُ كرهَته قال أبو ذؤيب الهذلي:
وكُنَّ بالرَّوْضِ لا يَرْغَمْنَ واحدةً
           من عَيْشهنّ ولا يَدْرِين كيف غدُ
ويقال :ما أَرْغَمُ من ذلك شيئاً أي ما أَنْقِمُه! وما أَكرهه!
ومَراغُ الإِبلِ: مُتَمَرَّغُها؛ قال الشاعر:
يَجْفِلُهَا كُلُّ سَنَامٍ مُجَفَّلِ
لَأْيًا بِلَأْيٍ فِي الْمَرَاغِ الْمُسْهِلِ
وقيل تمرَّغ على التُّراب أو تمرَّغ في التُّراب: تقلّب عليه أو فيه فيقال : تمرّغتِ الدابّةُ، وتمرّغ الطِّفلُ!!
والتمَرُّغُ: التَّقَلُّبُ في التراب!
وفي حديث عَمّار قوله : أَجْنَبْنا في سفر وليس عندنا ماء فتمَرَّغْنا في التراب؛ ظَنَّ أَنَّ الجُنُبَ يحتاج أَن يُوَصِّلَ الترابَ إِلى جميع جسَده كالماء.
وجاء في بعض المعاجم الرغام بمعنى  (البَوْغاء) وهي دقاقُ التُّراب الهاِفى فى الهواء ; ومنهَ تَبوُّغُ الدّمِ وهو ثورَانُه وارتفعت بَوْغاءُ الطّيب ; إذا سطعت سوَاطعُ فَوْحه وقيل:
 لعُمْرُك لولا هاشمٌ
ما تَعَفَّرتْ بِبَغْدَانَ فى بَوْغائها القَدمَان
  وقد يأتي التمرغ بمعنى التعفر وقيل :تعفَّر في التُّراب تمرَّغ فيه، وغطَّى نفسَه بالغُبار!!
والمراغة في لهجتنا المحلية وأغلب مناطق الجزيرة العربية  تطلق على التربة الطينية المستوية أو المنخفضة من الأرض وغالباً ما تتكون بعد تجمع مياه السيول في منخفض من الأرض فيتبقى الطين الذي يصبح مع مرور الوقت رملاً خفيفاً دقيقاً يتطاير منه الغبار مع أول ريح ، وإذا أصابه مطر صار وحلاً يقول الشاعر عبدالله المسعودي الهذلي  - رحمة الله -:
اللي يمر المراغه ما سلم ثوبه من الطين
‏                  والمعترض للبلاوي لايقول الله بلاني


  وقد شاهدت -قبل أيام -في قرية مهايع بوادي ساية ذود من الأبل لرجل من قبيلة سليم وهي تتهادى في طريقها للصعود لمصيفها في حرة بني سليم وذلك بعد عودتها من المشتا في أودية تهامة الحرمين .
وقد توقف الذود عند مراغة طينية تتمرغ بها ودهشت بفعل أحد الجمال حيث قام يشتم هذه المراغة ويتذوقها قبل أن يستلقي بها ، ويتبعه بعد ذلك أغلب قطيع الأبل!!
فذهبت ألى أحد كبار السن من ملاك الأبل والخبيرين والعارفين بأحوالها فسألته عن هذا العمل فرحب بي  بعد أن ضيفني بحليب حلو المذاق من أحد الخلفات من نياقة فقال: أن الجمل يفعل ذلك لأختبار هذه الأرض بحاسة شمة القوية هل هي أرض نظيفة وخالية من الطفيليات حتى يتمرغ بها !!
وعندما سألت هذا ( البدوي ) لماذا تتمرغ الأبل بهذه الطريقة قال أنها تعتبر طريقة لتنظيف للإبل وتعقيم وقتل للحشرات والديدان والجراثيم الضارة العالقة بجلودها ،كالقراد ،والحلم ، والخملة ،وغيرها من الطفيليات والجرب الذي يصيب الأبل عادة. 
فذكرت قول الشاعر ممدوح العطياني العتيبي  وهو ما يوافق حديث هذا الشايب فيقول:

‏مراغة الجرُب مالي في طرفها مكان
‏تلقى من الجرُب ما يملى مساحاتها
‏االله جعلهااا مكان ً خصب للهيملان
‏تضوي عليها قبل تضوي على أمّاتها

‏واستمر هذا المسن في حديثه بقوله أنه ليس بالضرورة أن تكون الأبل مصابة بمرض جلدي أوغيره عندما تتمرغ فهي بعض الأحيان تتمرغ من أجل التنظيف العام وحك ومداعبة جلودها بالأرض وأكثر من يفعل ذلك منها صغار الأبل ( الحشو ) وغالباً ماتفعل ذلك في هذه الأماكن الطينية التي تناسبها عن غيرها من الأراضي الصلبة والقاسية !
وأردف حديثه قوله أن التمرغ ليس مقصور على الأبل بل يتعداها إلى غيرها من الحيوانات ، وقولة هذا يتوافق مع الشاعر والفلكي  راشد الخلاوي وهو يصف مراغة الارنب عند باب جحره ويشبها بنجوم الثريا :
‏اول نجوم القيظ غرا لكنها
‏مراغة بزوا عن باب المجحرا
والمقصود بالبزوى هنا في بيت الخلاوي الأرنب!!

وقد أنكر عليًّ هذا البدوي الخبير بشؤون الأبل عندما نقلت له قول البعض أن المراغة تسمى ( المعطن )  وأوردت  له قول الشاعر فيصل الرياحي البقمي -رحمة الله -
‏أطراف ثوبك لا تنوش المعاطين
                    ينشب بها طينٍ نثره ماه غيرك
‏تنشب وتبلش بين ناس خسيسين
                        لو كان ما مر المراغة بعيرك

فقال لي مبتسماً ومنكرًا هذا المعنى : أن المعاطن هي مبارك الأبل الدائم لها بعد ورودها من المرعى والماء وهي ليست كالمراغة التي تتمرغ بها ثم تنهض منها وتتركها!!
وبعد أن ركبت سيارتي وأردت مغادرة مراح نياق هذا البدوي نهض من مجلسه وأقبل علي وهو يودعني  قائلاً أبشرو بالخير والمطر والسيل يا أهل وادي ساية ، فقلت لما : فقال أن تمرغ الأبل بكثره في أي مكان نتفائل ونستبشر بسقوط الأمطار وحلول الخير والبركة!


كتبها /
مهدي نفاع بن مسلم القرشي
قرية مهايع - وادي ساية / محافظة الكامل / مكة المكرمة
الخميس ٢٣ شعبان ١٤٤١